يصر البعض على اعتبار النقاش حول العلمانية مفتعلا ومسقطا على واقع بعيد كل البعد عن مسائل نظرية من قبيل علاقة الدين بالدولة . ويؤكد هؤلاء في تعليقاتهم وتفسيراتهم على استثنائية الحالة الإسلامية وعلى تفرد التاريخ الإسلامي من جهة وعلى التصاق التجربة العلمانية الحديثة بالغرب عموما وبتاريخ سلطة الكنيسة خصوصا . وهذه الملاحظات وإن كانت صحيحة إلى حد ما فإنها لا تبرر أبدا النصف الثاني من خطاب بعض الأشخاص المتسم بالتشنج حاملا أحيانا عبارات تخوينية وتساؤلات انكارية تقدح في ذمم حاملي لواء العلمانية وتتهمهم بمعاداة الإسلام وبخدمة مشروع صهيوني غربي امبريالي يهدف إلى القضاء على الإسلام دينا وحضارة وتاريخا .
ردود الأفعال هذه مردها عقدة النقص التي نعاني منها في مقابل الآخر الغربي . فالعقل العربي لا يستطيع أن يتقبل هزائمه الحضارية في أثناء الإستعمار الغربي أولا ثم في مواجهته مع اسرائيل ثانيا وانتهاء بضياعه في معترك العولمة . لقد طورنا خلال المائة والخمسين سنة الماضية آليات رد فعل تعمل أوتوماتكيا لدى الحديث عن بعض الموضوعات الحساسة . فبمجرد الحديث عن الديمقراطية ، العلمانية ، الليبرالية... فإن الأمر يتحول إلى مؤامرة وعمالة وأجندات مرتبطة بمصالح غربية . العقل العربي اليوم عاجز عن الدخول في مناظرات جدية وعلى مقارعة الحجة بالحجة وهو يرفض التغيير ويرفض النقد بحجة الهوية والخصوصية والأصالة . وباسم هذه القيم المقدسة (الهوية ، التراث ، الخصوصية الحضارية ، المبادئ...) يصبح الخوض في مواضيع معينة من باب استعداء الشعب والتحامل على الإسلام . و كما قيل في أحد الحوارات المسألة ليست العلماني / اللاديني / الملحد / العميل في مقابل المتدين / الإسلامي / الإرهابي / المتطرف . المسألة أبعد ما تكون عن هذه التبسيطات وفي نهاية المطاف كلنا مواطنون وليس ضروريا أن نتفق على كل المسائل حتى نستطيع العيش معا . وأنبه هنا إلى محاولات الإقصاء المتكررة في المجال التدويني والتي تهدف إلى تهميش بعض الأصوات بادعاء أنها "ضد الشعب" أو ضد هويته وتاريخه واختياراته ، والتي ذهب بعضها إلى الدعوة الضمنية لهؤلاء للرحيل وترك البلاد للأنقياء والمتقين والوطنيين "الحقيقيين".
بعض الملاحظات أردت أن أثيرها في سياق الحديث عن الدولة العلمانية (لنقل الدولة المدنية ، فالعلمانية تذكر البعض بالمآكد والمؤامرات الصليبية والصهيونية) ، فقد فهمت أن البعض يصر على ضرورة إبقاء الدين مرتبطا بالدولة وذلك حتى يكون التجديد الديني ممكنا ، والتجديد الديني اليوم ضرورة تفرض نفسها كدرع ضد التطرف وضد التأويلات السلفية .
إ ذا كانت سيطرة الدولة على الخطاب الديني ضرورية ، فكيف يمكننا أن نفسر فشل الدولة التونسية في إحتواء الخطاب الديني وحمايته من الإنزلاق في التطرف والغلو ؟
فإذا نظرنا إلى الوضع في تونس منذ الإستقلال لوجدنا أن الأئمة والخطباء يعينون من قبل أجهزة الدولة ويخضعون لرقابتها في حين تم تحييد مؤسسات دينية مستقلة عن السلطة المركزية (الزيتونة مثلا) . وهو شكل من أشكال العلاقة بين الدين والدولة ليس بالعلماني الخالص ولكن دون أن يماهي ضرورة بين الدين والدولة . فماذا جنينا من هذه العلاقة ؟ لم تمنع الرقابة الحصرية للدولة الخطاب الديني من التطرف ، أولا لأن تطور الدين في تونس لا يمكن أن يتم بمعزل عن تطوره في بقية أرجاء العالم الإسلامي إذ سيكون حتما متأثرا بالتيارات السائدة ، وثانيا لأن الوضع الخاص في تونس الذي تتماهى فيه الدولة مع الحزب يجعل من السهل بل المحتم توظيف الخطاب الديني الخاضع للدولة لأغراض دعائية سياسية خالصة .
كان يمكن للتجربة التونسية في مسألة العلاقة بين الدين والدولة أن تنجح لولا هاذين العاملين الذين حكما عليها بالفشل . وفي وقتنا الحاضر تبقى الدعوات لمزيد إحكام سيطرة الدولة على الدين بهدف تعزيز التجديد والوسطية دعوات غير مجدية طالما ظلت أجهزة الدولة مندمجة بأجهزة الحزب وطالما مازلنا عرضة إلى خطاب ديني خارجي غير رسمي يحمل بذرات التطرف وتحمله إلينا قنوات اتصال من المستحيل على الدولة السيطرة عليها .
حسب رأيي الخاص فالمشكلة الأساسية التي تواجه التجديد في الفكر الإسلامي هي غياب سلطة دينية شرعية تضفي المشروعية على الأفكار الإصلاحية وتعطيها إمكانية التطبيق الفعلي . السلطة التي أتحدث عنها هنا هي أشبه ما يكون بسلطة الكنيسة لدى الكاثوليك ، وهي مؤسسة غائبة تماما في التقاليد الإسلامية السنية .
في البلدان ذات الأغلبية السنية ليس هنالك تمثيل رسمي للإسلام وكل ما يسمى بالعلماء والمشايخ والفقهاء ماهي إلا ألقاب تصف بها فئة من الناس نفسها دون شرعية حقيقية لا نصية ولا مذهبية كما هو الحال لدى الشيعة . لو تسائلنا مثلا من يمكنه أن يجدد من داخل الإسلام وتكون له الشرعية اللازمة لإصدار الأحكام (أو الفتاوى) المتطابقة مع جوهر الإسلام والمنسجمة مع روح العصر لوجدنا أنفسنا أمام مأزق : كل مسلم تقريبا يمكنه أن يفتي في أمور الدنيا والدين وكل مسلم يمكنه أن يدعي فهم حقيقة الرسالة المحمدية . إننا نلمس تلك الأزمة عندما يطل علينا أحدهم بأحد الفتاوى الغريبة مثل رضاع الكبير أو غيرها فلا نجد ردة فعل تشفي الغليل وتعطي إجابة نهائية وقاطعة في المسألة . فمن له سلطة مماثلة للفاتيكان في الدول السنية ؟ هيئة كبار العلماء في السعودية ؟ أم الأزهر ؟ أم المفتيين الرسميين لكل دولة ؟ أم أئمة المساجد ؟ أم الدعاة ؟ أم نجوم الفضائيات الإفتائية ؟؟
الحقيقة أن سلطة التشريع الديني يتقاسمها كل هؤلاء ، وكلما اشتد تخاصمهم حول مسألة ما ازدادت الرغبة في الرجوع إلى النص بوصفه الحامل الوحيد للشرعية ، ثم إلى السنة بوصفها تقريبا التطبيق الإنساني الوحيد المعصوم من الخطأ . إذن فالمحاولات التوفيقية تصب في أغلب الأحيان إلى أكثر التأويلات كارثية : التأويل الحرفي للنص والنظرة السلفية لما يجب أن تكون عليه حياة المؤمن اليوم .
عندما رحل بابا الكاثوليك يوحنا بولس الثاني صرح "مالك شبل" وهو أحد الكتاب الفرنسيين المسلمين أنه من المؤسف ألا يكون للمسلمين بابا . أعترف أني لم أفهم ذلك التصريح في حينه لكنني وبعد ذلك بمدة بدأت أفهم ، وسأحاول أن أفسر ذلك بمثال :
ناصبت الكنيسة الكاثوليكية العداء لليهود لقرون عديدة معتبرة إياهم آثمين لتسببهم في إعدام عيسى الناصري . ثم تراجعت الكنيسة عن ذلك في أثناء مجمع "الفاتيكان 2" بين سنتي 1962 و 1965 إذ اعتبر المؤتمرون أن اليهود إخوة للمسيحيين في الإيمان وأنه من الخطأ استعدائهم . تغيرت عقيدة الكاثوليك منذ ذلك اليوم إذ خلافا لما كان في الماضي أصبح سب اليهود أو معاداتهم أو الدعاء عليهم محرما بموجب المرسوم البابوي (الذي ناقشه الكرادلة وختم بختم البابا المعصوم من الخطأ) . من الممكن أن يطل علينا اليوم أحد الكاثوليك المتطرفين بخطاب كراهية ضد اليهود ، لكنه سيكون من السهل أيضا التنصل منه إذ بالإمكان عزله من الكنيسة وفي كل الأحوال فما قاله لا يلزم إلا نفسه والعقيدة الرسمية هي ما يقررها الكرادلة والأساقفة ومن فوقهم جميعا البابا . يفترض هذا النوع من التجديد الديني قدرا أدنى من إرادة التغيير لدى رجال الدين ، وهو الشيء الذي ربما توفر لدى رجال الدين المسيحي أثناء مجمع "الفاتيكان 2" (بعد أهوال الحرب العالمية وبسبب عقدة الذنب الرهيبة إزاء المحرقة اليهودية) لكنه لم يتوفر بالقدر الكافي عندما تعلق الأمر بمسائل تجديدية أخرى (أذكر مثلا رفض يوحنا بولس الثاني إباحة الواقي الذكري وهو ما يتسبب في إنتشار أكبر للأمراض الجنسية) . فاحتكار التكلم باسم الدين حتى وإن بدا لنا تكريسا لسلطة دنيوية باسم الدين من الممكن أن تكون له إيجابيات في بعض الأحيان .
6 commentaires:
أنه من المؤسف ألا يكون للمسلمين باب
Je m'excuse d'écrire en français ya Mani, mais j'ai apprécié ton article et comme j'ai pas beaucoup de temps, je voulais juste te dire que plus je lisais plus je me disais que tu allais soulever ce point, celui que les Musulmans devrait avoir une instance centrale pour qui serait le "garant" d'une certaine évolution.
Malheureusement, je pense qu'aujourd'hui, il me semble quasi impossible d'avoir la même instance centrale que les catholiques pour quelques raisons :
1- Et là j'invoquerai la théorie de la conspiration, qui même si tu semble la désapprouver, est présente quelque part, surtout au niveau du Moyen-Orient. L'Occident croisé et les Juifs ne souhaitent pas l'union des musulmans ce qui pourrait les menacer, non pas par la force militaire mais plus par la propagation des idées de foi. Et il suffit de voir que de plus en plus de personnes chercher à diffamer l'Islam en se basant uniquement sur les clichées de violence par exemple et les mettant dans des films ou des courts-métrages en boucle.
2- Qui va se charger de la centralisation des fatwas et des évolutions de la religion : l'Arabie Saoudite NON, danger wahhabite, l'Egypte NON, danger khwanji, la Tunisie NON danger bourguibiste laïque, l'Iran SUREMENT PAS, ils sont chiites, l'Indonésie ou la Malaise, NON, y'a des conflits là-bas, c'est très loin, et puis c'est pas la même culture
3- La culture justement : beaucoup de gens vont se soulever un peu partout, comme beaucoup de tunisiens ont tendance à le faire "nous avons nos propres traditions, notre propre conception de la religion, nous sommes plus ouverts d'esprit, nous ne voulons pas reculer ..."
Bon, bref, les arabes se sont entendus pour ne pas s'entendre.
Mes salutations.
bravo pour l'article, ton analyse est très pertinente
ceci dit, plutôt qu'un pape sunnite, je penses que le monde musulman a aujourd'hui besoin de pluralité, à la fois l'islam saoudien, egyptien, tunisien, malais, turque... et tout ça permet au croyant d'adhérer à la vision qui lui correspond le plus sans qu'il y en ait une qui soit la seule valable.
Donc, aujourd'hui il faut œuvrer pour soutenir les modernistes et les rationalistes parmis les penseurs islamique pour pouvoir rénover et faire évoluer la religion, il ne faut surtout pas laisser la place aux seuls cheikhs wahhabites et leurs affidés se présenter comme étant le seul courant idéologique légitime de l'islam.
Est-ce que ce rôle incombe à l'Etat? peut être mais dans ce cas l'Etat lui même doit apprendre à gérer la pluralité, l'opposition et la divergence sans tomber dans le déni de l'autre.
القائلون بتفرد الحالة الإسلامية بخصوصياتها يتجاوزون هذا الادعاء ويتحولون إلى مدافعين أشداء عن عالمية الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان.فالخصوصية تثار وفق صلاحيتها للمشروع المدافع عنه والخصوصية هي أحد أركان خطاب الهوية .وهذا الخطاب ليس لديه منطق قائم الذات لمسائلته .يعتمد الانتقائية في التاريخ وبعض الأحداث المعاصرة لترويج خطاب غوغائي يجد قبولا واسعا في الفئات التي خرجت من الأمية الفعلية بفعل التعليم واستثمرت قدرتها في القراءة والكتابة على نشر تعاليم الإسلام كسياسة ومجموعة قيم .فهؤلاء هم المجددون في الإسلام.نجد منهم القرضاوي الذي يتعاطى مع خطابه شريحة من المتدينين ومن لايجد ضالته عند القرضاوي فسيجدها لدى طريق رمضان أو زغلول النجار الذي يفتي ويبرهن عن المعجزات القرآنية وآخرون سيجدون ضالتهم عند بن لادن وطالبان.فهذا التعدد ليس باعتباطي أو إرادي ولكن بفعل الزمان والمكان ويقدم الحجة لعدم صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان.وبرغم أن الأغلبية من دعاة الإصلاح الديني يلحون على عدم المرور بنفس التجربة الغربية لتطوير النظام السياسي بالغرب في كتاباتهم لكنهم في الآن نفسه يريدون المرور من نفس النفق الذي مر منه الغرب :الإصلاح الديني .وفقط جهلهم بالأوضاع التي حتمت الإصلاح الديني بالغرب تجعل لديهم وهما ينموا يوميا، بفعل ضغط الحركات الدينية، بإمكانية تقليص نفوذ هذه الحركات.فالنظام السياسي يمكن تطويره بمعزل عن إصلاح ديني .فالإصلاح الديني شأن ديني. أما الحركات الدينية التي تصر على ارتباط الدين بالدولة فهي محقة في ذلك اعتبارا أن الإسلام لم ينتشر ولم يستمر خارج السلطة. وليس لهذه الحركات من الزاد الثقافي والفهم التاريخي للأوضاع يمكنها من تصور بقاء الإسلام في حالة فصله عن الدولة.
طال غيابك عن البلوغوسفار يا سيتوايان !
لقد أثرت مسائل كنت سأتعرض لها ولضيق الوقت والمجال سأتحدث عنها لاحقا . فمثلا أستغرب اليوم ممن يعتبر أن القرضاوي وهو السلفي المتشدد يعتبر وسطيا من قبل البعض . إذا كان القرضاوي مجددا ووسطيا فما هو التطرف إذن ؟؟
مسألة الهوية هي كذلك مسألة حساسة وتثير ردود فعل عنيفة لدى ذكرها . أرجو أن يكون لنا المجال حتى نتناقش حولها ، فقد رأيت أنها أثيرت من قبل البعض وأتمنى أن يبقى مستوى الحوار رفيعا حول هذه المسألة
تحياتي
@ kaiser & ghoul : Merci pour vos commentaires qui soulèvent des questions auxquelles j'essayerai de répondre dans la 2nde partie du post. Je n'appelle pas forcément à ce que les musulmans aient un pape mais j'essaie de montrer pourquoi ça marche pas dans l'état actuel des choses.
Si la solution était facile, on l'aurait su depuis longtemps !
A très bientôt donc.
cependant l'existance d'une autorité catholique est justement ce qui a posé problème pour l'occident, jusqu'à l'arrivée des idées des lumières.
A moins que justement tu ne veuilles qu'on passe par le même chemin : une autorité religieuse détestée, donc rejet de l'autorité et de la religion
Enregistrer un commentaire