vendredi 7 novembre 2008

واحد وعشرون سنة من الخبز

هذا المقال نشرته في مدونة أخرى السنة الفارطة . لم يتغير شيء منذ ذلك الحين

------------------------------

في عام 1987 كنت صبيا لم يدخل المدرسة الإبتدائية بعد. ذات صباح خريفي أيقظني أبي باكرا وقال لي إن بورقيبة لم يعد رئيسا. فقلت مندهشا:"أويعقل هذا؟". ثم أفقت من دهشتي على وقع هتافات الجماهير التي تهلل لرئيس جديد، رئيس لا يعرف أحد عنه الكثير.

كانت عمة أبي الطاعنة في السن تقول لي إن بورقيبة هو من يوفر لنا الخبز. وذلك بعد إذن الله تعالى طبعا. كانت مكانة بورقيبة في قلبها بعد الله مباشرة كما في قلوب ملايين التونسيين في ذلك الحين. وتسائلت بسذاجة: "هل يقدر الرئيس الجديد أن يطعمنا خبزا هو أيضا؟"

وانبلج فجر جديد. لم يأت الرئيس الجديد كي يطعمنا خبزا فقط، بل جاء كي يطعمنا خبزا وحرية، أو هكذا خيل لنا، أو هكذا قال لنا، أو هكذا فعل حقا. قانون الأحزاب، قانون الصحافة، إنتخابات، تعددية، ديمقراطية، ميثاق وطني... كانت كلمات تتردد في الصحافة وفي التلفزيون وكنت كل مرة أمطر أبي بالأسئلة. كان العهد الجديد عهد الأحلام الوردية. وكان وطننا واحة، والعالم العربي صحراء قاحلة.

دخلت المدرسة مع بدايات العهد الجديد. كنت أنتمي إلى آخر دفعة من "النظام القديم"، إذ تبدلت المقررات في العام الذي تلا دخولي، كما تبدلت أيضا أشياء كثيرة. ومع ذلك كنت أجد من يقول لي معزيا أن "النظام القديم خير" وكنا، نحن أبناء الدفعة الأخيرة قبل الأساسي، نشعر بالفخر لإنتمائنا إلى عالم يتلاشى رويدا رويدا.

صرت أقرأ الصحف بانتظام حتى أتدرب على القراءة السريعة. ثم أصبحت القراءة متعة والمتعة عادة. أذكر أن الصحافة كانت تنشر أحاديث لزعماء المعارضة الإسلامية، وأذكر تماما كيف أن أحدهم قال في إحدى الصحف أنه لن يمانع إذا قررت إبنته اتباع موضة الميني جيب. أذكر أن التلفزة لم تكن تستبله المواطنين بقدر ما تستبهلهم اليوم. رأيت مرة معارضين في التلفزة ينشدون حماة الحمى. سألت أبي مستنكرا: "كيف يتجرؤون على ذلك؟" فأجابني بهدوء: "إنهم توانسة!" صمتت وذهلتني المفاجأة. إنهم تونسيون! أصبح الوطن في داخلي رحبا يتسع للجميع، صار حقلا يعج بعشرة ملايين زهرة، يمكن لكل زهرة فيه أن تكون بلون مختلف عن الأخريات وأن تنشد "حماة الحمى" دونما خوف أو وجل. وأدركت دونما جهد كبير معنى التعددية رغم أن مدينتي كانت تسبح بحمد لون واحد.

تتالت الإنتخابات... الأولى فالثانية...فالثالثة. الأرقام مفزعة، تذكر بأبشع الديكتاتوريات، لكن ذلك لا يهم، فتونس شيء آخر، تونس استثناء، تونس ديمقراطية رغم اجماعها على رجل واحد. تونس تشعل الغيرة في قلوب أعدائها لذلك هم لا يقولون فيها كلمة خير.

كبرت وكبرت في خيالي الأحلام. جربت الحزب وانخرطت في بضعة منظمات شبابية. كان زملائي من النشطين شبابا مراهقين في مثل عمري. لم نكن نفقه شيئا في السياسة. كنا نبحث عن الترفيه: رحلات، مصائف، موسيقى وحفلات شبابية. كنا نتثائب في الإجتماعات السياسية ونلتفت يمنة ويسرة بحثا عن فتاة تجمعية جميلة الأهداب. كنا نبحث عن الحب وعن المغامرة وكانت صور صانع التغيير جميلة لماعة تغري بمستقبل مشرق. ثم مللت ذلك كله. ذات يوم قال لي أحد "المسؤولين" أنني "ثوري" لأنني قمت بملاحظة في غير محلها عن الإستفراد بالحكم. ضجرت من الفكرة الواحدة والرجل الواحد وصببت اهتمامي كله على الدراسة. قال لي أبي ذات يوم وقد شعر أن أفكاري لم تعد بألوان الحزب الأوحد: "رد بالك مالسياسة عيش ولدي". وآليت على نفسي أن آخذ حذري من السياسة.

غادرت الوطن تاركا أهل الهم غارقين في همهم. نحن جيل الهروب والتفصي من المسؤولية. في مدينتي الأروبية الجديدة صرت خلقا آخر. أصبح الوطن ذكرى بعيدة. أصبح الوطن هو الطفولة والغربة هي واقعي وحقيقتي الوحيدة. واستيقظت ذات يوم فقيل لي إنهم يحتفلون بعيد ميلاد الوطن.

2821 سنة بعد عليسة*، وهم يصرون على أن تونس بعثت إلى الوجود منذ عشرين سنة فقط. شاهدت تلفزتنا الوطنية السابعة (والوحيدة) فأصابني الغثياني. أهذا نحن؟ رأيت صورا بالأبيض والأسود تحت عنوان "قبل التغيير" تتحول إلى صور بألوان زاهية مرفقة بموسيقى مرحة. تقول العبارة المكتوبة أسفل الشاشة "بعد التغيير". نظرت إلى وجهي في المرآة، فلربما كتب أحدهم على جبيني "مغفل" دون أن أدري.

رجعت أمام الجهاز وفي حلقي غصة. إنهم يبثون وثائقيا عن "إنجازات تونس في عهد التغيير". لقد تجرأ الصحفي الفذ الذي قام بتركيب فلم البروباغندا هذا على وصف رئيس الدولة بـ"القائد الرمز". أريد فقط أن أعرف شعور التونسيين وهم يرون رئيسهم ينعت بلقب كان حكرا على أسوأ حكام العرب. أريد أن أعرف رأي رئيس الدولة نفسه في هذه البروباغندا الرديئة التي تجعل منه يوصف بنفس أوصاف سيئي الذكر صدام والقذافي والأسد. وتسائلت إن كنا فعلا، كما نتبجح دوما بحال أفضل من "أشقائنا" العرب.

لقد كرهت في صغري نشرات الأنباء على قناتنا السابعة (والوحيدة). لا يتحدثون إلا عن نشاط رئيس الدولة وعن مباريات كرة القدم. رئيس الدولة يحضر نهائي كأس كرة القدم ويهنئ رئيس نيجيريا بعيدها الوطني. رئيس الدولة قال... رئيس الدولة فعل... رئيس الدولة يأذن... رئيس الدولة يقوم بزيارة فجئية...رئيس الدولة يشرف...رئيس الدولة... لقد أصبحت نشرات الأنباء تلك خزعبلات أطفال بجانب ماكينة الكذب التي نراها اليوم. ورغم أن الجميع يعرف أن أب الأمة التونسية الحديثة يرقد في المنستير، فإنهم رغم ذلك لا يستحون من الإفتراء ومن الدجل. هل نستحق فعلا أن نعامل كجهال وكأغبياء؟.

مؤخرا تحدثت مع والدي في السياسة. أحسست أن ممارسات الحزب صارت تؤرقه هو أيضا رغم أن قناعاته السياسية لم تتزحزح. في معرض كلامه قال لي:"الرئيس بورقيبة...عفوا...أقصد بن علي...." كان ذلك كافيا حتى أفهم حنينه إلى الماضي البورقيبي. حنين يتقاسمه الكثير من التونسيين، ومنهم من لم يعرف أصلا بورقيبة في سنوات حكمه ومجده. وأخذتني رعشة؛ أيمكن أن نحنّ يوما إلى عهد بن علي كما نشتاق اليوم إلى المجاهد الأكبر؟

لسنا نعيش إلا الزمن الذي رضينا بالعيش فيه. لسنا نحمل إلا القيم التي أردناها لأنفسنا ولا نقبل إلا بالظلم الذي نسكت عنه. أما الوطن فإنه فيعرف قطعا أن له من العمر أكثر من 2821 سنة.

ــــــــ


* : تقول الأسطورة أن عليسة أسست قرطاج في 814 ق.م

3 commentaires:

Alé Abdalla a dit…

tu ne te souviens pas qu'avant on vivait en noir et blanc?

L'AsNumberOne a dit…

très Bel article, Merci

brastos a dit…

مسرحية رتيبه و مقرفه .. فعلا .. برافو